
توافق عجيب
شانشيز ألونصو - ناقد فني من الأرجنتين
رسم الأثر
محمد الأشعري (شاعر - وزير الثقافة)
تُمْسِكُ العَتَمَةُ الصافية، المرْهَفَة، والعَذْبة بتلابيبنا، حالما نسلم بصرنا لهذا الفضاء المتأرجح بين الحضور والتلاشي.
تمسك، بالمعني الذي تعنيه حركة يد واثقة تقودنا إلى مناطق الدهشة والتوقع. إن الفنان أحمد جاريد يحقق في لوحاته الأخيرة تلك التجربة المثيرة للاقتراب من المنبع، حيث يظهر أصل الماء، أصل الصوت، ورحم الضوء الجنيني.
في هذه التجربة لا يكفي المرء أن يبصر، بل عليه أيضا أن ينصت لرقرقة المنبع الحجري، و"لخطوات" الماء المتسارع نحو تلاشيه، وعنذلك يمكن للرؤية أن تستقبل عنف ذلك النقاء المثير للوحة غارقة في السواد.
قلت عنف نقائها، لأن شيئا ما في اندفاع اللون، وفي تحقق الحركة، يكاد يكشف تمزقا نازفا في تلك الأجسام المستباحة بالتماعات ضوئية خاطفة.
وتحس أن الحركات رغم انشطارها البَيِّن، والالتماعات رغم تَشَظِّيها، ليست سوى جسد واحد مُخْتَرَق بِظِلاله وتمزقاته العميقة، إنه نقاء شبيه بصفاء اللغة عندما يلد بعضها بعضا، عندما ينفجر المعنى مخلفا وراءه سديما من الحروف المتناسلة المقِيمَة دوما في عتمات اللذة.
إن كثيرا من لوحات جاريد الحديثة لا ترسم شيئا، إنها تكاد ترسم دهشتنا وعطشنا الدائم عندما ندرك أن كل شكل في هذا الفضاء المظلم ليس سوى جزء من شكل، ليس سوى بتر لاندفاع عارم... وكأن الفنان لا يفعل شيئا غير الانصات بعمق لقولة (ملارميه) :
"لا ترسم الشيء، بل ارسم التأثير الذي يحدثه".
وأعود لذلك الضوء المنفلت مثل نافذة صغيرة على "المَاوَرَاء". إن التلقي الأول يوهم بعلاقة انشطار بين الضوء والعتمة، بعلاقة اقتحام متبادَلة تُولَد الأشكال من خلاله، ويتحقق التشظي عبر عنفه، لكن تأمُّلاً دقيقاً سرعان ما يكشف وجها آخر للعلاقة، فأن تكون في بقعة الضوء فإن ذلك لا يعني وجودك خارج العتمة. ذلك أنه رغم وجود الضوء الخالص، والعتمة الخالصة، ورغم وجود تلك الحركة الإيروسية في لقائهما (يلج الليل النهار ويلج النهار الليل) فإن منطقة ما أكثر إبهارا، ورقة، وإثارة، توجد في الما بين. في المستعصي على الاقتحام، أو كما تقول جملة مضيئة في عتمة اللوحة :
في بهاء ما لا يُولَج.
في تجربة أخرى للفنان أحمد جاريد يقع تمازج بين كتابة ذات نفس صوفي، وتخطيطات تكاد تكون خطاطة لوحات مقبلة. ورغم هيمنة النص في هذه التجربة، فإن المكتوب نفسه يحيل إلى تأمل في حساسية الأشكال، كأنما التدفق الصوفي نفسه ليس سوى تجربة في الإقتراب من هشاشة العالم.
إن ظلال هذه التجربة توجد بشكل متميز في لوحات هذا المعرض ليس في الشيء المرسوم، بل في التأثير الذي يحدثه.
هناك مسألة عجيبة محيرة شغلتني منذ سنوات مع اتساع معرفتي برسوم جاريد وبتنقلاته من محطة تشكيلية إلى أخرى وتتمثل في وجود أوجه شبَه وتوافق عديدة وصارخة ، حد التطابق الكامل في لوحات بعينها ،بينه وبين الرسام الأرجنتيني الكبير ريكاردو مونيوس(1929-1997) بدون أن يكون أي منهما قد اطلع على أعمال الآخر ، أو لديه أدنى معرفة به.
وريكاردو مونيوس بالمناسبة هو أب التجريدية الهندسية المابعد حداثية في التشكيل الأرجنتيني المعاصر واللاتيني الأمريكي بلا منازع ... لكنه للأسف الشديد يكاد يكون مجهول تماما في أوروبا لقلة المعارض التي نظمت له في البلدان الأوروبية وفي ظروف ومناسبات لم تكن ملائمة بتاتا لسوء حظه وحظنا ... ومما زاد الطين حمأة القرار الذي اتخده بعدم السفر خارج حدود وطنه مع مطلع الستينيات ، وهو القرار الذي لم يخرقه أبدا ولو مرة واحدة حتى وفاته في " سييرا ديل البا" يوم13 تشرين الأول (أكتوبر) 1997.
ولأنني كنت دائما من المعجبين بفن ريكاردو مونيوس حتى لقد أنجزت كتابا عن أعماله ضمن مقالات مختلفة كتبتها عنه في فترات مختلفة ، فقد أدهشني أن أكتشف في أعمال الرسام المغربي جاريد " أساليب " و"تقنيات" تشبه إلى حد كبير تلك التي اعتمدها مونيوس في " كتابته" التشكيلية . بل إن المحير هو أن هذا التشابه – التطابق سيمتد مع مرور السنوات ليؤكد بما لا يدع عندي أي مجال للشك أن الرسامين معا كانا يمران من نفس المراحل – لكن من دون تزامن – ويتنقلان من تجربة إلى أخرى بتطوير تقنيات مماثلة ، وإن بكيفيات مختلفة : فمرحلة "شفافيات بالأسود والأسود" عند جاريد في النصف الأول من التسعينيات تجد توأما لها في سلسلة الأعمال السبعينية عند مونيوس والمعنونة ب "عيون بلوتو" بنفس التكثيف اللوني ، ونفس المنحى التجريدي ..كذلك تقنية التنضيدات البصرية في أعمال جاريد الأخيرة برواق باب الرواح بالرباط إلخ .. نجد شبيها جليا لها في أعمال ريكاردو مونيوس الثمانينية غرب الأرجنتين.
إن هذا التوافق العجيب والرباني هو ما يفسر اهتمامي الخاص بتجربة جاريد وهو الذي مكننا من بناء صداقة خاصة ووطيدة لم تفتأ تتعمق وتتطور مع مرور السنوات .. نحن نتقاسم الكثير من الانشغالات الجمالية والفلسفية والعديد من المطامح والمشاريع .. وعلي أن أعترف الآن أنني مدين لجاريد بالتعرف المتزايد على هذا البلد الجميل و بالعديد من الصداقات التي تجمعني بفنانين وأدباء مغاربة من مدن مختلفة
مقتطف من تصرح الناقد الفني الأرجنتيني شانشيز ألونصو في استجواب بجريدة القدس العربي عدد 4359 مع الشاعر المغربي المهدي أخريف الذي تولى ترجمته عن الإسبانية.
1
تبدو الكتابة عن أحمد جاريد بمثابة هامش على بياض نصي... ماهيَ ببديل عن اللوحة أو تعويض أو تكملة بلغة الحروف لنقصان في لغة التشكيل.. وامضة تأتيه، مختزلة،للتعليق على فجوات في النص التشكيلي... تأتي في فترات توقف التو ثر تأتي حينما تدعو الحاجةُ التقنية، بصيغة ملاحظات، إشارات تضيء شعاب السفر التشكيلي.
2
"طَرَقات سريعة بعد منتصف الليل، هو العنوان المضلل الموضوع لهذه الصفحات الخمس والعشرين من دفتر جاريد، الذي يعتبره "خارطة طريق" يلجأ إليها.. أثناء الاشتغال بالمحترف التشكيلي الواقع في ضواحي منطقة "طريق النخيل" شرق الدار البيضاء.. عبارة عن شذرات مكتوبة بعفوية، ماهيَ بخواطر ولا تأملات مقصودة لذاتها، حافلة هي بإشارات متنوعة إلى تلك "الحروب الصغيرة" الدائرة بين "العين" و"اليد".
إليكم بعضا من هذه الشذرات :
- "التردد هو ما يجعل تجربة الإقدام مغامرة
- Je cherche le beau pas le joli
- المغامرة هي الموعد من طرف واحد مع اللوحة
- البتر تجربة قاسية لكنها ضرورية، طريق وعرة لكنها سالكة نحو ولادة العمل الفني.
- وقت التأمل يستغرق أكثر من وقت التدخل، يبدو أنها غريزة الوحش والطريدة.
- اللوحة كأي ولادة لابد أن تكون عسيرة.
- ...
-
3
في تعليق له على هذه الشذرات كتب سانشيز أُلونصو(1).. وهي تخفي أكثر مما تظهر هذه العبارات الوجيزة إذا كانت تظهر شيئا فحذر الفنان تُظهِر.. تُظِهر الحرص على إبقاء المسافة بين التشكيل كلغة أم و"الكتابة" كلغة "مصاحبة" مؤانسة. إن أسئلة اللوحة لن تجد لها "حلا" في أسئلة الكتابة.. لذلك تبدو لي هذه "الشذرات" بمثابة عتبات قصيرة تحت باب النص، هي خارطة طريق وعكاز طريق في آن يضيء الشعاب ويفتح بضع كوى وفواصل للبوح.
4
أحمد جاريد فنان تشكيلي بصورة أساسية، لكن مغامرته في التشكيل تتغذى من معارف وخبرات شتى، من الفلسفة والأدب نثرا وشعرا تتغذى من الموسيقى من المعمار من الفنون الشعبية والبصرية بصفة عامة. الكاتب فيه اختار التخفي خلف التشكيلي، مع أنه قادر على أن يستقل بذاته وصفاته. لكنه في هذه الحالة سيخلق حالة شد وجذب بينه وبين التشكيلي قد تحرج الفنان لذلك يظهر الكاتب إما في فواصل "استراحات" المشهد التشكيلي، وإما بعد أن يتم التوقيع على اللوحة، ليسطر بضع علامات استفهام بين الفنان وبين شياطين فنه.
سانشيز أُلونصو كينطانوس، وهو اسمه الكامل، كاتب وناقد قبل أي شيء أخر. اتخذ من الرسم، على نحو ما اتخذ جاريد من الكتابة، هواية، ملاذا يلوذ به في أوقات البياض.
نمط الكتابة الشذرية عند جاريد يوازيه عند سانشيز أسلوب الضربات التخطيطية الخفيف المتقشف المتبع في لوحاته المشكَّلة دائماً، وبتنويعات محدودة، من أشباه أجنحة متداخلة، مبعثرة، ممسوحة، مرسومة بالبني والرمادي دون سواهما وعلى نفس الورق : ورق الغويلكسينس المشمع.
كتب سانشيز أُلونصو مقالات انطباعية نقدية ممتازة عن أعمال تشكيلية لفنانين معروفين ومغمورين، أرجنتينيين، إسبان، فرنسيين ومغاربة حسبي للتمثيل أن أذكر منهم : مونيوس غالبان، كارمن إيغلياس، بابلودي لوكاس، إيمانويل سونج روتييه، عبد الكريم الوزاني، عباس صالادي.. وعن أحمد جاريد كتب أكثر من مقال، ويعود المقال الأول إلى مطلع التسعينات(2 ) وقد نشره في مجلة "أفق أخر" المختصة تحت عنوان : "شفافيات بالأسود والأسود" كرسه بالكامل – أربعة أعمدة طويلة – لقراءة خاصة لمرحلة "بالأسود والأسود" في تجربة أحمد جاريد.
كذلك حاور جاريد في العديد من لوحاته كتابات شعرية متنوعة، بكيفيات توظيفية مختلفة.. فمن "مواقف" النفري إلى "سرير لعزلة السنبلة" لمحمد الأشعري، ومن "أناشيد" إزراباوند، إلى "جدارية محمود درويش" إلى "أبجدية..." أدونيس.. حيث نلتقي بالشعر مكتوباً بأحرف تشكيلية أولى، نلتقي به سلالم إيقاع لكتل التجريدات في اللوحة.
5
للكتابة التشكيلية لدى جاريد لغة أخرى، لغة التنضيد لطبقات من الحركات والتكوينات ذات التجريد الهندسي المتقن، تنضيد تتناغم فيه بهارمونية بصرية – صارمة أحياناً – مختلف العلامات والأشكال. الكل هنا مشرب بمفردات لا تتحاشى التعبيرية وحسب وإنما تتحاشى أي شكل من أشكال الترميز...
لهذه الكتابة جماليتها.. جمالية الكثافة ذات الإيقاع البصري الخفيض، جمالية "معمار" تشكيلي موار بإشاراته الخاصة، بمكنوناته المنغلقة المنفتحة على الإيقاع الرائي.
6
تقول لوحة جاريد لك :
أعد نظرتك الأولى مراراً
دائما عن بعدٍ،
اقترب الآن
وشيد
من كتلي المسطورة بالبني القارس
شطحاتك.
أطل النظرة
في الأقواس الموزونة
ذات الأجراس هنا في
درجات الظل الباهت
من بعد عليك
بسطحي المصقول مرارا بالهجْسِ
البارد
لا ترفع صمتك في وجه
اللوحة.
بمراياي المبريات تَمَسَّحْ
لا تبرح نظرتك الأولى
حتى تظهر شعراي
في اليوم الخامس
حينئذ
اجعل بيتك سكناي
تعلق في أسودي الغابر،
بالخيط الأبيض في
الأغبر في اللوحة
وتقول كذلك لي :
لا تشرح بي كلمات
من حبر – مثلما تفعل الآن –
ابتعد – مقدار عامين –
قليلاً
ثم فصل على مقاسك
أقواس لغاتي.
(1) روائي وناقد وتشكيلي أرجنتيني مزداد ببلدة كامير غراندي (260 كلم غرب بوينوس أيريس).. يقيم في أنفرس البلجيكية منذ 1985. أصدر روايته الأولى 'احتضارات الجنوب" عام 1978 وعمره لما يتجاوز الثانية والعشرين...
مجموع ما صدر له من أعمال روائية ونقدية يفوق 16 مؤلفاً. وهو رسام معروف أقام بعض المعارض الفردية في العديد من المدن الأوربية.
(2) علي أن أذكر بأن تعارفهما الأول تم بمحض المصادفة، وكنت شاهداً، عام 1990 في أكاد ير التي جاءها سانشيز سائحاً للمرة الأولى ليجد نفسه يزور ويعاود زيارة معرض جاريد المنظم حينئذ ضمن أنشطة اتحاد كتاب المغرب بمناسبة انعقاد المهرجان الصيفي للمسرح المغربي.
هوامش على... دفتر... جاريد
المهدي أخريف – شاعر من المغرب
صلاح الوديع
أيها الواله بِاللَّون تمهلْ
هاهنا رصَّع نجمٌ فضاءهْ
وهنا أَرسَل طيرٌ غِناءهْ
فإذا اللون جُسور
وإذا الرسم إِضاءهْ
كلما خاطب لونٌ ورقهْ
أَجْهش الكون بأسماء الزمن
وغَذَا القلب يُناجي أُفُقَهْ.
البوح الغامض
يوسف فاضل
غموض الفن يكون فاتنا عندما تدرك بعضه ويحجب عنا بعضه. في لهفتنا إلى الكل ندرك بعضا من معناه.
من أية جهة تقبل على الأشكال التي يضعها جاريد، لا تستطيع أن تحيط سوى بهذا النزر، هذا الحد الأدنى الذي لا نستطيع الانفلات من قبضته : العالم المتشظي. لأنه فينا، فهو أول ما تجود به علينا اللوحات. العالم والمرآة التي تعكس صوره المتغيرة. ونحن لا نراه، نرصده في سره، سره المكتظ بالحياة. والذي لا يرى سوى باللون عندما يصل مرحلته القصوى من التناسق. عندما يصل عتبة البوح الغامض وتندحر الكلمات ويبقى اللون الذي هو معنى ونور وموسيقى...
معرض أحمد جاريد.. « كتلة أثر» بضربة واحدة.
لحسن العسبي
الأمر أشبه بالحفر في أركيولوجيا باذخة.. كما لو أنها لُقَى استخرجت بعناية وبحنو من باطن الأرض ( من باطن أسرارها ).. لكن، الحقيقة أنها لُقًى فاتنة مستخرجة من أرض الفنان الداخلية، أي من عوالمه السرية ( هو المتخصص في الفلسفة وأساسا في علم النفس التربوي )، مما جعلها ترجمانا لأركيولوجياه الداخلية.. من هنا جمالها الآسر، كونها رسول صادق لتلك الدواخل..
ذلك، أول ما يشدك في المعرض الجديد للفنان التشكيلي المغربي أحمد جاريد، الذي افتتح مساء الأربعاء الماضي 14 أكتوبر 2009 بقاعة « فونيز كادر » (٭) بالدارالبيضاء. المعرض الذي يشكل انعطافة ( حتى لا نقول قطيعة ) في مسار هذا المبدع المغربي الأصيل، الذي يعتبر مع جيل كامل من الفنانين التشكيليين المغاربة، رافعة حقيقية لمدرسة الفن التشكيلي المغربي في كل الخريطة العربية وفي ضفاف البحر الأبيض المتوسط. ولعل عنوان الانعطافة، هو في حضور لون الأرض بشكل أقوى في الأعمال الجديدة لجاريد. ثم، أيضا، حضور تفاصيل غير مسبوقة في كافة أعماله السابقة، لعل أكثرها وضوحا خيالات نخلات هاربة وأوراق شجر ما، علامة على أننا بإزاء لقى أركيولوجية طازجة. ومما يأسر حقا، كلما تأمل المرء طويلا في تفاصيل اللوحات، وتراكيب اللون، ومساحات الضوء، أنه يغرق وئيدا في لغة صنعة رصينة. ذلك أن الإشتغال على التفاصيل الدقيقة لبناء اللوحة، يجعلك تتساءل، أليست يد الفنان هنا أشبه بصانع حياة،، حياة أثر يُستخرج من سحيق الأرض السرية للمعنى، تلك التي بنيت أثرا إثر أثر في دواخل الفنان، وسكنت عينه الداخلية، ومنحتها أن تصفو موجة إثر موجة، تماما مثلما يفعل الموج مع حجر أخضر في شطآن بعيدة، أو يفعل ماء الشعاب مع حصى الأودية.
في كل لوحات أحمد جاريد الجديدة، نجد عناصر بكر للطبيعة ( فحم / رماد / غبارُ رُخام / تراب أعالي تيزي نتاتست بالأطلس الكبير / خشب / حبر الجوز الهندي )، مما يجعلنا أمام عمل فني لاستخراج صلصال معان ثاوية، كل واحد منا، يجد فيها أثرا من فرح طفولة بعيد.. إنها لوحات تُعدي، لأنها تعيدك إلى يفاعة زمن كدنا ننسى أنه كامن فينا، أمام التكلس الذي أصاب دواخلنا في مدن الإسفلت التي تأكلنا مثل غول مطمئن لطريدته، ويهرش كل طراوة بداوتنا، تلك التي علمتنا إياها أمنا الأرض.. مع لوحات أحمد جاريد هذه، يعود لون التراب، تعود رائحة الطمي الذي تترك فيه خطواتنا وشيطتنا أثرها فيه.. بل إنها لوحات تكاد تكون ترجمة لعبور « كثلة أثر » دفعة واحدة فوق فضائها المحدد سلفا بالإطار، ثم تطير إلى الأعالي.. كما لو أنها ضربة نسر، يترك فقط أثر مخالبه على التراب.. وفي « كثلة الأثر »، تلك، التي هي ضربة الفنان، تتراكب الخطوط، والمنحنيات، وخلطة الألوان، وطرواة الماء، ونتوء قطعة حديد، واستطالة خشب ما، ثم كلمات وكلمات وحروف وحروف، فيها المقروء وفيها الذي لا يهبك حق قراءته.. وهو حضور من الكثافة ما يجعله أشبه بالصرخة الممتدة التي بلا ضفاف، تلك التي عادة تأخذها أعالي الجبال في صدى مفتوح المدى ( ألسنا أمام تراب أعالي تيزي نتاتست ؟! )..
إن ذلك، كله، إنما يترجم الصنعة العالية للفنان، تلك التي لا توهب سوى بتراكب هائل للمعرفة.. المعرفة الأشبه بجبل، والمثل القديم يعلمنا « أن العالم يظهر بوضوح أكبر من فوق جبل ».. مع لوحات أحمد جاريد، الجديدة هذه، إنما نكون فوق جبل.. وكم هو آسر ما نتمتع بمشاهدته من فوق… هناك… في تلك اللوحات..
التوغل الصوفي العميق في شاعرية الألوان المنفتحة على اللانهائي
نور الدين محقق ناقد وروائي
هذا الفنان التشكيلي الذي ولد سنة 1954 بمدينة الدار البيضاء ، مدينة الأنوار ، والذي عمل في مجال التدريس أستاذا لمادة علم النفس التربوي و لمادة الفلسفة ثم بمدرسة الفنون الجميلة بنفس المدينة ،محاضرا بها حول فلسفة الفن، لينتقل بعد ذلك للعمل بوزارة الثقافة، إضافة إلى مشاركاته المتعددة في كثير من المعارض الوطنية والعربية والدولية واٍلى إصداره لمجلة رائدة في مجال الفن التشكيلي هي مجلة "زنار" التي خلفت منذ صدور عددها الأول أصداء طيبة في المشهد الثقافي المغربي برمته.
عرض الفنان أحمد جاريد بمعرض باب الرواح آخر لوحاته التشكيلية التي انتقل من خلالها وبها إلى مرحلة جديدة في مساره التشكيلي المتميز الذي عرف به ، فبعد أن كانت لوحاته السابقة شديدة التوغل في الألوان الرمادية المرتبطة بالعمق الذاتي المطل على جوانية الدواخل بكثير من التأمل الموجع ، والتي رافقها سحر الحرف في بعض الأحيان متوحدا معها بقوة ، وبعد أن سبر غور الشعر العربي خصوصا الروحي منه متتبعا خطى وحروف المتصوفة العرب الكبار وفي مقدمته الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي ،باحثا في هذا الشعر عن صور لا تدرك من خلال الكلمات وإنما من خلال التجسيد اللوني لها كاشفا عن القضايا النفسانية والكنه الإنساني المتجلي في هذا الشعر وفي الكون المرتبط به ، وبعد أن سبح من خلال تشكيله الغامض –الواضح ، القريب عن بعد والبعيد عن قرب ، كما يقول ابن الرومي ، في مختلف أبعاده والممتد في ذاكرة الأيام الماضية لكن المستشرفة دائما آفاق المستقبل بكثير من الأمل المنطوي الذي لا يبوح بسره إلا للعارفين بروعة وبلوعة الألوان وبالروح التي تسري خفية فيها ، ينتقل في هذا المعرض وبنفس الرؤية/ الرؤيا العميقة إلى معانقة النور الباهر والمنفلت على الدوام عبر القبض على بعض تجلياته انطلاقا من اعتماد ألوان ذات ضوء منفتح ، وفي مقدمتها اللون الأصفر .هذا اللون المبهر والساخن والقوي بين الألوان والذي من الصعوبة القبض على تشكلاته كما يذهب إلى ذلك كل من جون شوفاليي وألان غييربرانت في معجم الرموز ، نجده يؤطر لوحات الفنان أحمد جاريد أو على الأقل يؤطر بعضها في هذه التجربة الجديدة ، مما يمنح لهذه اللوحات طابع الذهاب بعيدا نحو أفق النور الهارب باستمرار والسفر إلى أقصى تخومه والصعود إلى أبعد درجاته العليا .يقول الفنان التشكيلي حسان بورقية في "كاتالوغ المعرض" في هذا الصدد ما يلي ( يقطع جاريد الطريق على "الظلام"، يلتقط الضوء باحتراقٍ في توهّجِ بهاءٍ ظاهرِ، هو الذي احترق فيما مضى في تجربة قاتمة تركت فيه حنينا لاذعا إلى دوام احتلال النور.) كما يقول ،في نفس الكاتالوغ، عن نفس هذه التجربة الشاعر والناقد التشكيلي اللبناني شربل داغر ما يلي : (لم يعد الفن عند جاريد فعلَ "تجويد" أو "تحسين"، كما يظهر في الزخرفة الإسلامية، أو في اللوحة الكلاسيكية، ولم يعد مبنياً وفق "قواعد" يتم العودة إليها في صورة لازمة، وإنما أصبح الفن أشبه بالسفر، بعمل المسافر، الذي ترسم خطواتُه جذورها. أصبح عملاً بالمعنى التام للكلمة، لا تنفيذاً، ولا تدويناً، لما هو متبلور خارج سطحه. باتت تنحو اللوحة إلى "كيانيتها"، إلى احتكامها الذاتي، الذي يتكفل بها، وحده من دون غيره . لهذا بات جمالُ الوصول مكافأة المسافرين المغامرين، وجمال التواصل مكافأة المرافقين الجسورين).
إن الفنان أحمد جاريد وهو يصل إلى هذا المستوى الفني الرفيع ، حيث تتحول اللوحة إلى عمل متكامل ، وحيث يصبح المعرض بأكمله ليس تجميعا للوحات،وإنما يشكل رؤية فنية بعيدة الغور ، تدعو لاكتشاف الأشياء وإعادة اكتشافها من جديد . يدعو المتلقي إلى ربط علاقة مختلفة مع الأشياء المقدمة إليه ، وليس إبداء الإعجاب فقط ، وإنما الإعجاب المبني على الإحساس بخلخلة داخلية للرؤى المصاحبة للعين المبصرة والرائية للعمق الداخلي المنطوي في ثنايا اللوحة المرسومة بحس فني مسائل ومتسائل ، في ذات الآن،بالمعنى الرفيع ،لمفهوم السؤال في بعده الفلسفي والفني بالخصوص .
هكذا يمضي الفنان أحمد جاريد في بحثه الفني العميق الموغل في صوفية النور وفي أبعاده المتسامية التي تحول الأشياء إلى رؤى وتجعل من الرؤى أشياء سابحة في المتخيل الذي تقدمه اللوحة عبر عوالم الألوان ، هذه الألوان الباحثة عن الالتقاء في برزخ التكوين المشكل لها، إذ اللوحة هنا تتحول إلى كتاب فني ، تتحول إلى عمل فني كلي ، وكل كتاب /عمل حقيقي ، يسير ، كما يقول موريس بلاشو نحو دائرة انبنائه ، هي التي تدعوه إليها ، هذه الدائرة هي هنا ، دائرة الانشطار الفني المتوهج الذي تشكله اللوحة من خلال وعبر الألوان المتواجدة فيها ، تواجد الروح في الجسد.
إن اللوحة هنا تعيش عزلتها الفنية البهية ، العزلة الجوهرية التي تحقق فرادتها الفنية وعدم مشابهتها لأية لوحة أخرى ، العزلة هنا تأخذ بعد التفرد بالمعنى الذي يعطيه لنا دائما موريس بلانشو . هذه اللوحات في تفردها تقدم لنا معرضا تشكيليا متكاملا من حيث الروح الكلية التي تسري في كل لوحاته.
هكذا يمكن القول إن الفنان أحمد جاريد وهو يقيم معرضه التشكيلي الجديد هذا، يكون قد قدم رؤى تشكيلية جديدة ومختلفة في مسار الفن التشكيلي المغربي الذي يشهد تألقا مستمرا، أساسه الإبداعية المتجددة المنفتحة على مختلف الآفاق الفنية شكلا ومضمونا، مبنى ومعنى
مثلما الصدفة موعد محتم
شربل داغر (شاعر وناقدر فني من لبنان)
يخال قارىء سيرة الفنان أحمد جاريد، وبعض ما كُتب عنه، وأمام تواتر أسباب علاقة، في نتاجه التشكيلي، مع النص الكتابي (الشعري، الصوفى...)، أنه أمام علاقة تعبير لازمة بين الكلمة واللون (والشكل)، فيما العلاقة هذه مضللة، لا تقودً، ولا تعرِّف تماماً، بما هو عليه صنيع جاريد التشكيلي.
أن يعول الفنان، أو يتكل، أو يستعير، أو يتجه صوب... النص الكتابي، فهذا ما يختاره، إلا أنه لا يعين تماماً ما قام به، ولا ما انتهى إليه عمله فوق اللوحة. وهذا ما يضلل أيضاً، لو اتبعنا عناوين بعض لوحاته ("مكاشفة"، و"الطريق صوب شفشاون"، و"الغرفة الزرقاء" وغيرها)، إذ أنها تشير بدورها إلى أفعال، ربما إلى وقائع حادثة، غير أنها لا تختصر أبداً ما ينتهي إليه قوام اللوحة.
ذلك أن ما ينشىء اللوحة لدى جاريد، وما تنتهي إليه، عو عمل تظهير بصري (كما في استظهار الصورة الفوتوغرافية من نسختها "السلبية")؛ وهو ينبىء بما هي عليه ثقافة جاريد البصرية، والتي تتعين في مدى قبول عينه لما تصنعه وتحدثه. فما يمثل فوق لوحته ليس صورة مستقرة، ولا متبلورة، ولا ناجزة، ولا تصدر عن مخطط جلي (وإن تبتدىء اللوحة من رسم أول، أو من حافز وغيرها)، وإنما هو صورة تنتهي إليها الممارسة التشكيلية، إذ هي صورة قلقة، حذرة، لا تبلغ نهايتها، أو تجليها الأخير، الحاسم، إلا حين ينتهي الفنان إلى تقبلها، إلى توقيعها.
هي عين الفنان، قبل عين المتلقي. هي عينه، التي تستجمع في كثافتها تاريخ ما حصلته، ما تستحسن رؤيته وترغب في أن تعرضه على غيرها، في نوع من الشراكة، السلبية (أي من طرف الفنان نفسه على المتلقي)، أو الإيجابية (أي بنوع من التواطؤ بينهما).
وهي عين ثقافية بقدر ما هي إحساسية، طالما أن الفن الحديث بات يعتني بسياقه المخصوص (أي خطاب الفن نفسه، بين الفنانين ودارسيه)، بشروط إنتاجه، قبل سياق التلقي له (أي بين متذوقيه العموميين والخاصين).
استوقفتني في إحدى اللوحات فردة حذاء نسائي، وتذكرت ما قرأت عن "أصل العمل الفني" عند هايدغر، عن حذاء فان كوخ في غير لوحة من أعماله؛ وهي الأحذية عينها التي استعادها ديريدا في إحدى دراساته التي اتخذت من الحذاء بدورها ذريعة للحديث عن الأصل وعن الفن في آن. تذكرت، إلا أنني تساءلت: هل يدل الحذاء النسائي في لوحة جاريد على "أصل" اللوحة، أو على فنيتها، أم لا يعدو كونه ذريعة - وإن كان ابتداء في لحظة عيش – للتشكيل؟
أتساءل، ذلك أن فردة الحذاء، هي مثل شباك مغربي مزخرف، أو غيرها من العلامات "الواقعية"، نادرة في أعمال جاريد؛ وهي إن ظهرت في أعماله الأخيرة خصوصاً، فإنها لا تعدو كونها تضلل العين فيما تدعوها. هي أشبه بالخديعة، بإضاعة العين، بتعليقها فوق منظر وهمي ومتخيل، إذ أن حاصل العمل، أو جهده الأساسي، واقعٌ في جهة أخرى، في استحواذ آخر: على لعبة التصوير نفسها، وبأدواته نفسها.
هي فردة حذاء نسائي طبعاً، "بما لا يقبل الشك" (مثلما قال هايدغر عن أن الأحذية الماثلة في إحدى لوحات فان كوخ تعود لفلاح حكماً، "بما لا يقبل الشك")، إلا أنها هي أقرب إلى أن تكون أيضاً لطخة، أو ضربة لونية، وتلتبس بالتالي مرجعيتها "التشبيهية".
ذلك أن ما يشغل جاريد يكمن في بناء فوق السطح التصويري يحيل أو يحتكم إلى بنائيته نفسها، مثل احتكام النص الحديث إلى علاقاته التي تتعين فوق الأسطر، في جملته النحوية الممتدة. لهذا ترى البناء عنده ينبني باللون، أكثر منه بالعلامة، أو بالرسم، أو بالشكل. وما يذيعه اللون، أو ينشره، مضلل هو الآخر، إذ أن ما يظهره هو غير ما يضمره. فهو يبسط اللون أحياناً كما في لوحة مائية، أي بسرعة، من دون تظليل أو معالجة مستلحقة، أشبه باللون إذ يحط لمرة أولى وأخيرة فوق الحامل المادي. وهو يقوم، في لوحات أخرى، بطمر اللون تحت اللون: فاللون يخفي، يراكم، أكثر مما يُظهر أو يجلو أو يعرض. كما لو ان المحو هو شكل الكتابة، أشبه بـ"تطريسات" لونية فرعونية، يتبين فيها المتلقي آثار ألوان تحت اللون ... "الأخير" بالتالي. كما لو أن طلس اللون على اللون هو الشكل الممكن لإظهاره
هذا الحديث عن اللوحة والنص، قد يبدو للبعض حديثاً قديماً، يشير إلى صلة "تراثية"، ماثلة، على سبيل المثال، في عمل الواسطي على مقامات الحريري (وغيره طبعاً)، إلا أن هذا الحديث يشير – بالمعنى التاريخي، والفني بالتالي – إلى صلة ناشئة، تعود في مبتدئها – على ما درست – إلى رائعة ستِفان مالَرْمِه: "رمية نرد...".
ولقد كانت أكثر من رمية موفقة، إذ جمعت بين قصيدة وأعمال ليتوغرافية، من جهة، وبين تصور بصري للقصيدة يتعين في علاقة مستظْهَرة بين اللوحة والكتاب، من جهة ثانية. وهو ما أريد أن أشدد عليه، هنا. فقصيدة مالَرْمِه – كما رسم الشاعر الفرنسي مخططها – تتعين في صفحتين مفتوحتين، على أنهما تشكلان معاً صورة القراءة، فيما تكون الصفحة "ميتة بصرياً" إذ يكون الكتاب مغلقاً. وهو ما غفل عنه أدونيس في مسعاه لمحاكاة صنيع مالَرْمِه، في "الكتاب"، إذ أن الصفحة عنده مستقلة، كما في كتاب مغلق، عدا أن توزيع الفقرات الداخلية في الصفحة الواحدة في "الكتاب" يقترب من المرجعية الإسلامية الكتابية، التي تجمع بين النص وهوامشه أو تفسيراته.
قام صنيع مالَرْمِه على مجاراة اللوحة في نشر قصيدته، وهو ما لم يبلغه شاعر (أو فنان) في صنيعه، على ما أعرف. ما يعنيني من هذا القول، هو أن صنيع مالَرْمِه صنيع بصري بالمعنى التام للكلمة (فيما سبقه بودلير إلى إيجاد شبه آخر، بين اللوحة والقصيدة، وهو أنه وجد في "صورة" الفنان التشكيلي "صورة" الشاعر الحديث)، وهو ما تعين في تجارب مختلفة لاحقة، هنا وهناك، وسَّعت من مجال التعالقات و"التواشجات" بين الكتابي والبصري.
هذه الصلة بين الكتابي (بالمعنى الحديث) وبين البصري نجدها في عمل جاريد، وهي غير العلاقة القديمة، "التراثية"، التي تتعامل مع الصورة على أساس السمع، مثلما قال ابن الجوزي عن القصاصين في معرض آخر، ولكن مناسب لفهم هذه العلاقة القديمة: "إنما يستمع هؤلاء على سبيل الفرجة". وهو ما يمكن نقله إلي سياق آخر، وهو القول بأن هناك من يعرضون للمتفرج، لا على أساس بصري محض، وإنما على أساس قرائي، قديم.
جاريد ليس من هؤلاء، إذ أن صنيعه ينهل من معين بصري، وعلى سبيل الفرجة؛ وهو ما يستحسنه بنفسه قبل غيره. فجاريد يحاكي السطح الفني مثل صفحة، ولكن بعقلية بصرية.
تحيل لوحة أحمد جاريد على عناصرها، بما يبنيها وفق العلاقات التي يتدبرها فوق السطح التصويري. وهو في ذلك أقرب إلى المسافر من دون مخطط، إلا أن له في جعبته، في مِلْوانتِه (حاملة الألوان)، التي ينقلها معه، ما يمكنه من أن ينصب أكثر من بيت، ومن أن يعيش أكثر من لحظة حارة. تحيل على بنائيتها المخصوصة، التي يحتل اللون فيها – ولا سيما بسطتُه الأساسية، في وسطها، مكان خط الأفق في اللوحة الكلاسيكية – فسحة الاستقبال، فسحة الإخفاء، وفي آن. ذلك أن اللوحة عنده تأتي من داخلها، من عمقها، من مكونها المحتجب، فتخرج إلى متلقيها، وإن كان يوحي ظاهر اللوحة بشيء من التسطيح الجلي.
ففضاء اللوحة لم يعد خارجها (وإن يتسقي منه بعض عناصره)، وإنما فيها، فوقها، فيما يؤلف اجتماعها المخصوص. وهو فضاء متخيل، وإن له مسبقات في عين الفنان، تجيزه وتصححه، وله أطر استقبال في عين المتفرج، تنفر منه أو تلتقيه لقاء الأحبة المجهولين والمغمورين. في مثل هذا السفر تقيم اللوحة، في مثل هذا الهجس بها، في مواقعتها، في مراودتها، على أن أشكال الصدفة الكثيرة والمتراكمة ترتسم – أخيراً – مثل لقاء محتم.
بمثل هذا الشوق، بمثل هذا الزخم، باستشعاره أحوال المخاطرة بوصفها أحوال الملاقاة الصاعقة، يُقبل جاريد على لوحته، على أنه لا يميز بالضرورة بين ما يلمسه وما يفعله، بين ما يُقبل عليه وما يخرج إلى استقباله.
هو مثل العصا للكمان، إذ يختلط الهواء يالإيقاع، واللمسة بملمسها.
لهذا لم يعد الفن عند جاريد فعلَ "تجويد" أو "تحسين"، كما يظهر في الزخرفة الإسلامية، أو في اللوحة الكلاسيكية، ولم يعد مبنياً وفق "قواعد" يتم العودة إليها في صورة لازمة، وإنما أصبح الفن أشبه بالسفر، بعمل المسافر، الذي ترسم خطواتُه جذورها. أصبح عملاً بالمعنى التام للكلمة، لا تنفيذاً، ولا تدويناً، لما هو متبلور خارج سطحه. باتت تنحو اللوحة إلى "كيانيتها"، إلى احتكامها الذاتي، الذي يتكفل بها، وحده من دون غيره.
لهذا بات جمالُ الوصول مكافأة المسافرين المغامرين، وجمال التواصل مكافأة المرافقين الجسورين.
┴
جاريد، مرآة الذات
حسن نجمي (رئيس بيت الشعر بالمغرب)
1. منذ عرفته، لم تتعثر خطوته. دائما يمضي باتجاه الريح وثابا يقظاً يزرع الضوء، يعطي للسواد معنى، ويراهن على قيمة التفصيل في تأثيث العمل الفني وترتيب المسافات المضطربة بين وعيه المتوتر ولا وعيه الهادئ.
لذلك، كانت أعماله أسطع دليل على حضور المواجهة وحضور التماهي. هنا، حيث تلتئم عدة جدليات :
جدلية أن يستبطن الخارج وأن يرى الداخل من الخارج في نفس الآن. جدلية اللوذ بالعزلة والصمت والإصرار على انتماء الفن إلى أهله وتاريخه وحياته.
2. تمتد صداقتي مع الفنان أحمد جاريد عميقا باتجاه نصه الكاليغرافي في مجلة "الثقافة الجديدة" أيام اختارت العين في المغرب أن تقرأ القصيدة الكونية قراءة أخرى.
وتتسع هذه الصداقة عبر الأغلفة والملصقات، ومن خلال الكتابة التي يتداخل فيها البصري بالشعري وبالفلسفي. تلك الكتابة التي تجعله أحد الفنانين التشكيليين المغاربة القلائل الذين يكتبون (القاسمي، شبعة، المليحي، أمينة بن بوشتى، حسان بورقية...). والآن، أرافقه كل يوم، في بوتقة التجربة الفنية وفي اشتباك المتاهات. أتتبع وأرصد وأنصت لهسيس ألوانه على القماش والورق والخشب والجدران. خطوته أقرب إلى خطوتي. ولنا أنفاس مشتركة. وتقريبا يرسم في اللوحة ما أكتبه في القصيدة.
3. هو ذا مساره. كانت اللطخة علامة بداياته. استثمر الصدفة وأعطى للفكرة قوة البذرة. واستدرجته التفاصيل إلى إغراء بلا ضفاف فكان التفصيل أداة مركزية في تشييد جملته التصويرية، وفي تحريك الإيقاعات الملونة، حيث يكمل كل تفصيل تفصيلا آخر. وجاء دفق العلاقة بالمرجعية الصوفية.
وأصبح أحمد جاريد مغمورا بالأسئلة الحقيقية : كيف يمكن للنص الصوفي المكتوب (للنص الفلسفي عموما) الكامن أعماقه أن يغدو مرجعا بصرياً ؟
كيف ننقل المتخيل الصوفي إلى ألوان وصور ؟ كيف يتخلص الفنان من قراءاته ؟ كيف ينسى كتبه ومكتبته ويجلس في مكتبته الروحية ؟ كيف ينظم هذه الجدلية الطارئة بين التذكر والنسيان ؟ وبين امتلاء المساحة وفراغها ؟ كيف يتخلص من ثقل الكلام ليصل إلى أقصى درجات الزهد والكثافة والتقشف في اللون والشكل والعلامات ؟ كيف يقول أهم الأشياء بأقل تعبيرات ممكنة ؟ وتراكمت الأسئلة.
وكنا شهودا على الفنان في أقصى المواجهات مع نفسه وبدا أن جاريد يواجه "تجربة تراكم المحن" كما وصفها مرة. لكنه كان ينفتح على عتبات ومسالك أخرى. كان يدخل ما يمكن اعتباره حالة الجدب القصوى. وهي حالة قادته إلى "مأزق"، وإلى توتر سيكلوجي كبير. وأفترض من ثم أن هذا المعرض الذي يعرض فيه جاريد "أوطوبورتريهات" نتاج لهذا المنعطف الذي قاده إلى منعرجات التيه منجذبا وراء نداءات المجهول. وطبعا، مثل هذا المنعطف القلق لن يكون مريحا في حياة كل فنان. وبالنسبة لجاريد، بحسه المرهف ونقاء فكره وقوة اختياراته، كانت التجربة قاسية ربما كان فيها كثير من الألم، وربما كثير من الرعب. المهم أن جاريد دشن مسارا جديداً ومختلفا هو المسار نفسه الذي يقطعه كل مبدع حقيقي في البحث الدائم عن عمل فني مستحيل. والأهم، في ظني، أنه اجتاز علاقته الصعبة مع النصوص الصوفية. ولعلها لن تعاود الظهور، فقد كانت "منهكة رغم ماكان فيها من لذة" كما أكد جاريد نفسه في أحد لقاءاتنا.
4. ولأن لجاريد جرأته، فقد واجه لحظته المأزقية.
كان له القدر الكافي من الوعي لكي لا يخجل من الإحساس بالضعف أمام عمله الفني. استرشد بذكائه الفلسفي والجمالي، هو الذي يعرف متى يخدر طاقته الفكرية كي يتيح للاوعيه أن يتكلم، ويعرف متى ينهض ذخيرته المعرفية. ووقف عاريا شفافا أمام نفسه متسائلا : "ما المأزقية ؟ هل هي عدم ملامسة الصباغة أم هي تكرار نفس العمل ؟" ومن هنا انطلقت تجربة الوقوف الفعلي أمام المرآة. مرآة الذات تحديدا.
علي أن أقرأ رسوم الذات هذه بعين شغوفة. بنظرة تتداخل فيها الجوارات : جوار الفنان بوصفه صديقا حميما، جواره بوصفه فنانا يكتب ويرسم (يداور مابين هذين الكائنين الهشين في جسده وتجربته : الكتابة والتصوير)، جواره أيضا بوصفه رجل معرفة (فلسفية). جوارات لا تتيح أمامي أي قدر من الحياد والبعد، إذ علي أن أقرأ هذه الأعمال بخطابي (من داخل خطابي) وأن أقرأها مغمورة بخطاب جاريد. ذلك لأن جاريد يعتبر من أفضل فنانينا المغاربة الذي يعرفون كيف يتحدثون عن عملهم وينسجون من حوله الخطاب الملائم والضروري.
5. إن صور الذات هنا ليست عملا اقتضته المتاهة العابرة. إنها استجابات لقلق عميق غامض. محاولة لاختبار الهوية في أحد أدق منعطفاتها. كأن جاريد يتحسس جرح الهوية الذي نزف كثيرا في دواخل رواد الحركة التشكيلية المغربية في بداياتها. إنه، تقريبا، نفس الجرح، وإن اختلف الدم والألم، وتغيرت مصادر الإيلام.
ورغم أن هذه "الأوطوبورتريهات" نابعة من رغبة في مصاحبة الذات ومحاولة التلاؤم معها، فإنها حافظت لنفسها على مسافة كافية. ومن ثم تحقق لها عنصر الأمانة في القرب من الفنان بنفس القدر الذي تحقق لها مكر الخيانة.
صور تشبه صاحبها، ولا تشبهه.
إنها له وليست له في نفس الآن. كأنها لنا جميعا. كأنه هيأ المرآة لنفسه وهيأها لنا أيضا. هو ذا جاريد في كلِّ مساره الفني : يتيح لنا أن نقرا أنفسنا فيما نحن نقرؤه، ونرى دواتها فيما نحن نرى ذاته. ولعل الصورة الذاتية (l’autoportrait) تفترض بالتحديد هذا النوع من العلائق المتجددة بالذات، وهذه الحميمية التي تعيد الرسام إلى نفسه فيما هي تعيدنا إلى أنفسنا.
6. ليس هذا وجه جاريد. إنه وجهي.
إنه وجه يمتحن الحلم.
يصل حد اختبار تخوم الجنون.
وجه اشتغل عليه لاوعي هادئ في وقت كان الوعي القلق يضطهد الذات في طرقات الخطوة الغامضة. وجه تتضافر حواليه ظلال قلقة في أعمال يبدو أن جاريد لم ينجزها ليراها جمهور، وإنما هي "يوميات" سفر خاص في طريق خاصة.
7. إن تجربة جاريد، بكل خصوصياتها الجمالية والتقنية، تشكل محطة متميزة. وهو لا يغير في هذا المعرض محطته. لكنه يغير نظرته إلى عمله وإلى نفسه. وبالتأكيد، فهو يغير نظرتنا – نحن أيضا – تجاه عمله. تجاه أفق عمله. بل وتجاه أنفسنا.
جاريد شطحات اللون...
ادريس البعقيلي
عبر بصمات السواد على السند...
عبر امتدادات التوحيد إلى الجسد... يتجدد القول في حينه ليمسك بتفاصيل الغائب، يطرح ارتهانات ومقامات المشاهد خلف السواد واللمسة البيضاء...
لوحات توفر امكانية التفكير والفهم لعدد كبير من الاهتمامات بسبب كثافاتها الدلالية وثرائها الرمزي. وكلما تنفتح لوحة على أخرى لتدعيم الفهم والنظر العميق تكتسب اللوحة شحنة دلالية إضافية.
لوحات هي خزان رموز يطغى عليه الشكل الجمالي المستمد بعض مكوناته الرمزية من النظر لضرورة التوتر الجدلي.
عمق يحمل معه زمن وحياة أو قوة ذات إيقاع يدفع بأن يبلغ السواد مضمونه داخل اللوحات وينشر صمته ليطوف بدخيلتك ويرتد بها إلى التوحد.
سؤال مفتوح على فضاء واسع وشقوق من الأبيض، سعي يحمل تجربة جاريد التي شكلت في مرحلة سابقة بدمجها للكلمة والجملة.. مع المرسوم ورفقة اللون الواحد والألوان. اقتصاد في الألوان يأتي داخل اللوحة بشكل يفضي تقاسيمها وتضع اللون برقة عند اللمسة الواحدة له.
لوحات، ربما تأتي بتأمل في كتابات صوفية، ما يفضي إلى أشكال مرسومة وحالات تستحضر النص في مصاحبة متبادلة. مما يضيء للنفس عتمات تلازم هذه الذات وهي ترسم.
تجربة في ارتقائها داخل مسالكها تستدعي شطحات الذات وارتعاشات النص الصوفي ورسوماته.
"مالاينقال" ؛" ذهاب وإياب " ؛ " مطلق السواد " ؛ " القناديل "؛ الخروج إلى الداخل أو العكس.. هو أصل الاشتغال عند جاريد كما عرفته من سنوات وعرفت عمله بأكثر منها.
ثمة دائما سفر تتطابق فيه الذات مع العالم ويصبح الليل شمسا أخرى، ظاهرةً جلية أو كناية بالنور والظل في تجربته الأخيرة هاته بألوانها المتناغمة، كالأزرق، الأصفر والمرمري.
غير غريب، لأن جاريد، من بين التشكيليين المغاربة القلائل، يحمل معرفة فلسفية وصوفية هي ظل يده وقدمه وعينه، كلها تلتقط صورا أو نتف صور وأشياء وتفاصيل وكلمات وأصداء وأصوات وعلاقات..عائمة كلها في سديم اللوحة، طائرة في الهواء، مثل غيماته وسلالمه وأثلامه المحفورة ونصوصه المختارة المثبتة على مساحة لوحاته. ينبع هذا عنده أيضا من حرصه على "تشكيل" تداخل بين الرسم، التخطيط واللون، في حركة واحدة..
ينظر إلى جسده من الداخل كأن كل العالم فيه. ومعناه أن الجسد والأشياء ليست في كَبَدٍ، إنما تشكل كلا ومشهدا واحدا. لا روحانية في هذا الكلام، فحتى في الفيزياء الذرية، لم تعد القطيعة الديكارتية بين الفكر والمادة، بين الأنا والعالم، محط تصديق. وربما من هنا كان جاريد أيضا يتعامل مع النصوص الشعرية في عمله التشكيلي، لأن كلاهما نهر احتمالات وتعدد حقائق. يرى الأولى لونا ويحولها إلى نور في عمله بشكل سحري، بروقا وتموجات، ارتعاشات واهتزازات يتعذر إمساكها، مرنة وسائلة كهيولى عالم البدايات.
هل يمكن القول إن جاريد فنان تجريدي؟
أعرف أنه لا يتوقف عند تفصيل معين أو يحرص على حكاية ما في عمله.. وأعرف أيضا أنه يحرص على ترتيل كوني ينشد الوجود وينصب الفخاخ لهذا النشيد بصبر ودقة يعريان العالم باندفاع وعناد.
في كل عمله ، كما يعرفه غيري، يقطع جاريد الطريق على "الظلام"، يلتقط الضوء باحتراقٍ في توهّجِ بهاءٍ ظاهرِ، هو الذي احترق فيما مضى في تجربة قاتمة تركت فيه حنينا لاذعا إلى دوام احتلال النور.
أحمد جاريد.. الوجود في ومن خلال العالم
حسان بورقية. (فنان كاتب ومترجم)
مَرمــر و صَـــنْدل و كِــــــساء
بنيونس عميروش ( تشكيلي و ناقد فن)
في البدء كان التخطيط، بمعناه الكاليغرافي، نقطة الانطلاق التي تنحدر بنا إلى زمن تألق القصيدة الكاليغرافية أو الفضائية كما يحب أن يسميها البعض، مع نصوص ماو الثورية، حيث كتب أحمد جاريد، بطلب من الشاعر محمد بنيس، قصائد لماوتسي تونغ بخط اليد، فمثلث أولى صرعات النشر البصرية ضمن العدد السابع لمجلة " الثقافة الجديدة " ( ربيع 1977 )، فكان " لهذه القصائد الماوية وقع كبير في صفوف القراء، أولا لأنها قصائد (ماوتسي تونغ)، نعم ماو! و ثانيا لأنها صممت بطريقة غير مألوفة، و ثالثا لأنها طبعت على ورق قوي نسبيا يختلف عن ورق باقي مقالات العدد. و قد خلفت هذه العملية نقاشا واسعا، و ألهمت دائرة من الشعراء بكتابة دواوينهم كما كتبت قصائد ماو في الثقافة الجديدة." يوضح جاريد ( حكايتي مع القصيدة بخط اليد، بيان اليوم، 21-03-2000 ). سيمكث هذا الولع الحروفي المشدود إلى جاذبية الخط الأندلسي خاصة، و المدفوع بحمى سؤال الهوية السائد وقتئد، إلى أن تحلل سواد الحبر و صار أكثر سيولة ليتجاوز اقتفاء الغرافيك، و يكتسح الرقعة و المساحة.
بعد امتدادات التخطيط و تشكّلات الرسوم الحبرية المحاورة و المجاورة للنصوص
،L’indicible الشعرية و الصوفية، سيهيمن السواد في مطلع التسعينيات ( ما لا ينقال
1991 )؛ سواد الأكمد الذي يفسح رعشة البياض بمعيار دقيق، في جدلية شعرية بين سديم المتصوف و نور الكوسموس، بين الظلمة و الضوء الذي لا تكتمل نظارته إلا بحدة التضاد، داخل ديمومة الأسود الليلي، سليل الصمت، حيث يتوارى الجسد ليزكي حضور الروح الحالمة. اللطخات و اللمسات البيضاء و الحمراء تتمثل كإشارات خاطفة تطبع فعل المحو بوصفه قيمة جمالية تتصل بمبدإ " اللامكتمل " كما يرى الفنان أحمد جاريد، اللامكتمل
نفسه الذي يؤثث التكامل العاشق بين النور و العتمة. في دوامة التفاعل الإبداعي مع النص الصوفي ( ابن عربي، ابن الفارض، الحلاج، النفري... )، ستكبر غواية التصوف لتتوسع رفقتها غواية السواد، إلى حين التحاق الكلمة في ذات السياق، ليتم التزاوج بين الصورة و الكتابة في العمل الفني المشترك مع الباحث الجمالي موليم لعروسي من خلال نصوصه التأملية باللغتين العربية و الفرنسية (قناديل الليالي العشر، البيضاء، 1994 )، المؤلف المطبوع على ورق البريسطول المقوى، و هو كتاب " بدون عنوان، بدون هوية – جنس، بدون إشارة لموقعه (يه )، يغامر بك لأفق انتظار مركب، في غلافه رسالة ملتبسة. تضطر للنظر إلى الغلاف الخلفي بانخطاف، و تزداد حيرتك بأي لغة كتب، و من أين ابتدئ الفتح (الصفحات )، أسلك يمينا أم ألج جهة اليسار؟ عندما تعثر على عتبة الغلاف، ستسوي الكتاب ( بين بديك ) و تستوي أنت معه أيضا، و تعود للبداية. " (أحمد لمسيح، التوالج الروحي، الاتحاد الاشتراكي، 08-11-1999).
إذا كان الفنان قد حقّق، كما المتصوف، ولوج عالم المجهول، بتمثل السواد المنبني على إلغاء الذات و هدم الذاكرة، فإنه لا يني يستجيب لرغبة عارمة في كشف النفس و ممارسة البوح الرمزي، في عودة إلى الذات عبر "الأطوبورتريهات " (1998 )، كي يؤسس العلاقة مع نفسه و مع الآخر من جديد، باعتبار الصورة الذاتية مرآة متعددة، تعكس صورة المبدع و المشاهد في آن، حيث يتجانس الوعي و اللاوعي بحس تعبيري، يعيد النظر تجاه الأنا و الهوية في بعدها الإنساني المجرد من أي انتماء.
في أعماله الجديدة ذات المقاسات الكبيرة، التي احتضنها الرواق الوطني باب الرواح بالرباط ( 18 دجنبر 2007 – 26 يناير 2008 )، يؤلف الفنان أحمد جاريد عوالمه بانطلاق تام، منفتح على مادّية هوائية، تتناسل كهبوب الريح الذي يغطي شساعة المساحة الموسومة بألوان ترابية، تشتق ماهيتها من مواد اللوحة نفسها: مسحوق المرمر، قشور الرمان، صباغ الجوز، صباغ المعدن، صباغ النبات، فحم، تراب... من خلال هذه المواد الطبيعية تستعير اللوحة نورانيتها الأرضية التي تتشكل بتنضيد منفلت، أشبه ما يكون بقشرات جدار عتيق، يعرّي ذاكرة الزمن باستظهار بقايا رسوم و رموز و كتابة تحاكي علامات الغرافيتي. الكل ينبني على تجميع أحادي ينهل من بساطة التركيب و صرامة الصدفة، كأن الحركة الواحدة عند الفنان تفريغ تعبيريّ متعدد و شامل، حيث " لا يميز بالضرورة بين ما يلمسه و يفعله، بين ما يقبل عليه و ما يخرج إلى استقباله. هو مثل العصا للكمان، إذ يختلط الهواء بالإيقاع، و اللمسة بملمسها "، يكتب الشاعر شربل داغر في نص الكاتالوغ. فليست العناصر الشكلية و الدّالة إلا تلك الآثار التي يقذف بها تراكم اللون الذي يتعارك و يتفاعل في الداخل، يمسح و يُبقي، يمتص و يكشف النتف، لتطلع العلامات و الترسيمات المبتورة، عائمة على السطح، خاضعة لموازين الارتجاج الذي يحكم التكوين الإقلالي المتحرك، المندمج و الموزع على الخلفية المنزلقة التي تلحم التخطيط و التلوين و الضوء في ذات الحين.
في ديمومة الارتعاش، يستوي الثبات مع الأشكال المقروءة، المصاغة بتشخيصية رامزة. في الوقت الذي يتمثل فيه كِساء خفيف معلق في الأعلى، يتشكل الحذاء النسوي بين الأسفل و الأعلى. فالحذاء الذي يبزغ و يتكرر من لوحة إلى أخرى يعتبر منبت الجسد، من الكعب و الردف إلى النهد و العين. النَّعل توطئة الجسد و حامله، و في أوضاعه المختلفة، يقوم مقام أثر القدم، مقام العبور الذي يضفي نفحة إيروسية على خلوية اللوحة الموصوفة بمناخ متصحّر و ماجن. و بخلاف حذاء فان غوغ الشاخص و المهيمن، يبقى الصندل النسوي جزئيا على مستوى الإبصار ضمن العناصر المدرجة في رحابة الخلفية، و مثل مركب صغير، يظهر و يختفي بين مدّ المرمر و جزر الضوء، إلى أن ينقلب فيغرق في موج المادة. لذلك يتبرّم بمظهر خجول، متمنّع، لينطبع في نهاية المطاف بين الوجود و اللاوجود، بين الذاكرة و النسيان، في عملية تمويه تفيد التذكير بالجسد المفعم بالرغبة، و المحكوم بالصراع و التحول الدائمين. و بالرغم من صغر حجمها، فإن فردة الصندل تتخذ رمزية محورية في القماشة، في حين تحيلنا على مفهوم " الفرد " بمعنى من المعاني: إذا كان الفرد يمثل حالة انفصال عند الصعاليك، فإنه يخلق حالة توحّد و تأمل عند المتصوفة، حيث نعود مع جاريد إلى سفر التكوين الذي تستوطن بداخله بذرة الصفاء المتناهي.
إلى جانب الصندل المعالج بتقنية تشخيصية، ينضاف عنصر الخط البارز على السطح، من خلال تناسل وحدات زخرفية حلزونية تتعلق بأشكال حديد النوافذ المطروق، على هيئة موتيفات متراقصة بتحليق انسيابي، كإشارة لمنفذ مرور مرن، و كعلامة معمارية محلية تحدد المكان و اللامكان في الوقت ذاته. كل هذه العناصر جعلها الفنان زئبقية، هاربة، غاطسة بين ثنيات مادته المرمرية التي تقاوم سطوة الضوء. إنه الانفلات الذي يقع على حافة الذات و التجربة التي تقعِّد تصويرية اللوحة، باعتبارها تجربة تعاش يقول جاريد، " لها مدارها الخاص و مقاماتها الوجودية و الجوانية، فضلا عن ذلك فهي حرمة: استلقاء و انكباب و إرسال يأخذ فيّ و مني و بي كل مأخذ. أجدني في برزخ ما، تداعيات روحية أريدها بصرية و ذات أبعاد، فأصاب بالضوء و تتشذر في رأسي العوالم، و تتلاشى من بين يديّ الأشكال و تنفلت كما تنفلت أي لذة. " ( حوار: بوجمعة أشفري و حساين بنزبير، الاتحاد الاشتراكي، 19-01-1992 ). من هنا نفترب من صيرورة التشذير عنده ( كما يمارسه في كتاباته )، التشذير الذي يلحم الشكلي و اللاشكلي، و يفعل في تذويب الحكي إلى أن يفقد شفراته لصالح اختزال تجريدي يتجانس مع خصوبة الشظايا المنتشية، و ينسجم مع إيقاع التراكب و قانون المسح القائم على تداخل الجواني و البراني، ليتدرج التلاشي إلى حد الغياب الذي يأسر الحضور.
في تراتب سخونة المادة الوضّاءة، الصباحية، الممتدة عبر معظم الأعمال، يخفت الضوء "في الحديقة مساءاََ"، عنوان اللوحة الثلاثية (342×180 سم ) المعالجة بتقنية مختلطة، حيث تبرد المادة و تنبسط بخفة الماء، لتؤثث ذلك المنظر الشاعري المتخيل الذي، رغم المفارقة Nymphéas الضوئية و الموضوعية، يثير لديّ نبرة رطوبة و نداوة توريقات النيلوفر
( لكلود مونيه ). لعل هذا المقطع المسائي– ضمن السلسلة المرمرية – عند الفنان أحمد
جاريد، استفاقة لإطفاء شعلة المرمر، و استمالة لحنين عمى الليل ( بالأسود و الأسود )، حتى تجد البروق الهلالية الخاطفة مسالكها في طبيعة أجواء قمرية موصوفة بأفق ليلكي يلاحق حدائق أبيقور.
تجدر الإشارة إلى أن الفنان أحمد جاريد، قد حصل على جائزة بيينالي " الخرافي " الدولي للفنون المعاصرة في دورة دجنبر 2006، بدولة الكويت.